كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُغَنَّمُ أَمْوَالُهُمْ الَّتِي لَيْسَتْ مَعَهُمْ مِمَّا تَرَكُوهُ فِي دِيَارِهِمْ لَا تُغَنَّمْ، وَإِنْ قُتِلُوا، كَذَلِكَ مَا مَعَهُمْ مِنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يُخْتَلَفُ فِيمَا يُغْنَمُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا مَعَهُمْ، وَمَا تَرَكُوهُ مِنْهَا فِي دِيَارِهِمْ أَنَّ مَا حَصَلَ فِي أَيْدِينَا مِنْهَا مَغْنُومٌ؟ وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَلَا تُمْلَكُ رِقَابُهُمْ؟ فَكَذَلِكَ لَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا تُمْلَكُ رِقَابُهُمْ وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إذَا أُسِرُوا، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، فَلِذَلِكَ غُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَالْخَوَارِجُ إذَا لَمْ تَبْقَ لَهُمْ مَنَعَةٌ لَا يُقْتَلُ أَسْرَاهُمْ وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ بِحَالٍ، فَكَذَلِكَ لَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ.
بَابٌ الْحُكْمُ فِي أَسْرَى أَهْلِ الْبَغْيِ وَجَرْحَاهُمْ رَوَى كَوْثَرُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قال: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا» وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي البختري وَعَامِرٍ قالا: لَمَّا ظَهَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ الْجَمَلِ قال: «لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا تذففوا عَلَى جَرِيحٍ»، وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قال: قال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ: «لَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ».
قال أَبُو بَكْرٍ: هَذَا حُكْمُ عَلِيٍّ فِي الْبُغَاةِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ السَّلَفِ.
وَقال أَصْحَابُنَا: إذَا لَمْ تَبْقَ لِأَهْلِ الْبَغْيِ فِئَةٌ فَإِنَّهُ لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، فَإِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْأَسِيرُ إنْ رَأَى ذَلِكَ الْإِمَامُ وَيُجْهَزُ عَلَى الْجَرِيحِ وَيُتْبَعُ الْمُدْبِرُ وَقول عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقول إنَّمَا كَانَ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْجَمَلِ، وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَسَرَ ابْنَ بِثَرِي وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ فَقَتَلَهُ يَوْمَ الْجَمَلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ فِي الْأَخْبَارِ الْأَوَّلُ إذَا لَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ.
بَابٌ فِي قَضَايَا الْبُغَاةِ قال أَبُو يُوسُفَ فِي الْبَرْمَكِيِّ: لَا يَنْبَغِي لِقَاضِي الْجَمَاعَةِ أَنْ يُجِيزَ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ وَلَا شَهَادَتَهُ وَلَا حُكْمَهُ قال أَبُو بَكْرٍ: وَكَذَلِكَ قال مُحَمَّدٌ، وَقال: لَوْ أَنَّ الْخَوَارِجَ وَلَّوْا قَاضِيًا مِنْهُمْ فَحَكَمَ ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يُمْضِهِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ رَأْيَهُ فَيَسْتَأْنِفَ الْقَضَاءَ فِيهِ قال: وَلَوْ وَلَّوْا قَاضِيًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَضَى بِقَضِيَّةٍ أَنْفَذَهَا مَنْ رُفِعَتْ إلَيْهِ كَمَا يُمْضِي قَضَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ.
وَقال مَالِكٌ فِيمَا حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الْبَغْيِ: تُكْشَفُ أَحْكَامُهُمْ فَمَا كَانَ مِنْهَا مُسْتَقِيمًا أُمْضِيَ وَقال الشَّافِعِيُّ: إذَا غَلَبَ الْخَوَارِجُ عَلَى مَدِينَةٍ فَأَخَذُوا صَدَقَاتِ أَهْلِهَا وَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ الْحُدُودَ لَمْ تُعَدْ عَلَيْهِمْ وَلَا يُرَدُّ مِنْ قَضَاءِ قَاضِيهِمْ إلَّا مَا يُرَدُّ مِنْ قَضَاءِ قَاضِي غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ بِرَأْيِهِ عَلَى اسْتِحْلَالِ دَمٍ أَوْ مَالِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ كِتَابُهُ.
قال أَبُو بَكْرٍ: إذَا قَاتَلُوا وَظَهَرَ بَغْيُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ وَجَبَ قَتْلُهُمْ وَقِتَالُهُمْ، فَغَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ شَهَادَةِ مَنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الْبَغْيِ وَقِتَالَهُمْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ هُوَ فِسْقٌ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ وَظُهُورُ الْفِسْقِ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَشَارِبِ الْخَمْرِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتَ تَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ فَهَلَّا أَمْضَيْتَ أَحْكَامَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ قال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إنَّهُمْ إنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَمَّا إذَا قَاتَلُوا فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ الْقَضَاءِ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَهَذَا سَدِيدٌ، وَالْعِلَّةُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قالوا إنَّ الْخَوَارِجَ إذَا ظَهَرُوا وَأَخَذُوا صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ أَنَّهُ لَا يُعَادُ عَلَى أَرْبَابِهَا، فَجَعَلُوا أَخْذَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ أَهْلِ الْعَدْلِ قِيلَ لَهُ: إنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِأَخْذِ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ قالوا: إنَّ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ إعَادَتَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تعالى وَإِنَّمَا أَسْقَطُوا بِهِ حَقَّ الْإِمَامِ فِي الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْإِمَامِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْأَخْذِ؛ لِأَجْلِ حِمَايَتِهِ أَهْلَ الْعَدْلِ، فَإِذَا لَمْ يَحْمِهِمْ مِنْ الْبُغَاةِ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّهُ فِي الْأَخْذِ، وَكَانَ مَا أَخَذَهُ الْبُغَاةُ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِهِ فِي بَابِ سُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْأَخْذِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَنَا قالوا لَوْ مَرَّ رِجْلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْبَغْيِ بِمَالٍ فَعَشَرَهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَسِبُ لَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ إذَا مَرَّ بِهِ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ؟ فَعَلِمْت أَنَّ الْمَعْنَى فِي سُقُوطِ حَقِّ الْإِمَامِ فِي الْأَخْذِ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا حُكْمَهُمْ كَأَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ.
وَإِنَّمَا أَجَازُوا قَضَاءَ قَاضِي الْبُغَاةِ إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي صِحَّةِ نَفَاذِ الْقَضَاءِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَدْلًا فِي نَفْسِهِ وَيُمْكِنُهُ تَنْفِيذُ قَضَائِهِ، وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَيْهِ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَلِّي لَهُ عَدْلًا أَوْ بَاغِيًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِ سُلْطَانٍ فَاتَّفَقَ أَهْلُهُ عَلَى أَنْ وَلَّوْا رَجُلًا مِنْهُمْ الْقَضَاءَ كَانَ جَائِزًا وَكَانَتْ أَحْكَامُهُ نَافِذَةً عَلَيْهِمْ؟ فَكَذَلِكَ الَّذِي وَلَّاهُ الْبُغَاةُ الْقَضَاءَ إذَا كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ عَدْلًا نَفَذَتْ أَحْكَامُهُ وَيَحْتَجُّ مَنْ يُجِيزُ مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ بِالتَّعْزِيرِ بِقولهِ- تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إلَى أَنْ يَرْجِعُوا إلَى الْحَقِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ يَجِبُ إلَى أَنْ يُعْلَمَ إقْلَاعُهُ عَنْهُ وَتَوْبَتُهُ؛ إذْ كَانَ التَّعْزِيرُ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَلَيْسَ لَهُ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ.
كَمَا أَنَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ لَمَّا كَانَ لِلرَّدْعِ وَجَبَ فِعْلُهُ أَنْ يَرْتَدِعُوا وَيَنْزَجِرُوا قال أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا اقْتَصَرَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ بِالتَّعْزِيرِ الْحَدَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُتَعَدِّينَ».
وقوله تعالى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يَعْنِي أَنَّهُمْ إخْوَةٌ فِي الدِّينِ، كَقولهِ- تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ.
وقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ رَجَا صَلَاحَ مَا بَيْنَ مُتَعَادِيَيْنِ مِنْ الْمُومِنِينَ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا.
وقوله تعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} نَهَى اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ عَيْبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَابَ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِقَارِ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى السُّخْرِيَةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَرْفَعَ حَالًا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُورُ مِنْهُ خَيْرًا عِنْدَ اللَّهِ.
وقوله تعالى- {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ «لَا يَطْعَنُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» قال أَبُو بَكْرٍ: هُوَ كَقولهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَكَأَنَّهُ بِقَتْلِهِ أَخَاهُ قَاتَلٌ نَفْسَهُ.
وَكَقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} يَعْنِي يُسَلِّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَاللَّمْزُ الْعَيْبُ يُقال: لَمَزَهُ إذَا عَابَهُ وَطَعَنَ عَلَيْهِ قال اللَّهُ- تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُك فِي الصَّدَقَاتِ} قال زِيَادٌ الْأَعْجَمُ: إذَا لَقِيتُك تُبْدِي لِي مُكَاشَرَةً، وَإِنْ تَغَيَّبْت كُنْت الْهَامِزَ اللمزه مَا كُنْتُ أَخْشَى وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بِهِ حَيْفٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَغْتَابَنِي عَنَزَهْ، وَإِنَّمَا نَهَى بِذَلِكَ عَنْ عَيْبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ، وَلَيْسَ بِمَعِيبٍ فَإِنَّ مَنْ كَانَ مَعِيبًا فَاجِرًا فَعَيْبُهُ بِمَا فِيهِ جَائِزٌ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْحُجَّاجُ قال الْحَسَنُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَتَّهُ فَاقْطَعْ عَنَّا سُنَّتَهُ فَإِنَّهُ أَتَانَا أخيفش أعيمش يَمُدُّ بِيَدٍ قَصِيرَةِ الْبَنَانِ وَاَللَّهِ مَا عَرِقَ فِيهَا عِنَانٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُرَجِّلُ جُمَّتَهُ وَيَخْطُرُ فِي مِشْيَتِهِ وَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَهْذِرُ حَتَّى تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ لَا مِنْ اللَّهِ يَتَّقِي، وَلَا مِنْ النَّاسِ يَسْتَحْيِ فَوْقَهُ اللَّهُ وَتَحْتَهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ لَا يَقول لَهُ قَائِلٌ الصَّلَاةَ أَيُّهَا الرَّجُلُ» ثُمَّ قال الْحَسَنُ «هَيْهَاتَ وَاَللَّهِ حَالَ دُونَ ذَلِكَ السَّيْفُ وَالسَّوْطُ».
وقوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِجْلٍ مُنَازَعَةٌ فَقال لَهُ أَبُو ذَرٍّ: يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا تَرَى مَا هاهنا مِنْ شَيْءٍ أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ وَمَا أَنْتَ أَفْضَلُ مِنْهُ إلَّا بِالتَّقْوَى» قال: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآية: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}.
وَقال قَتَادَةُ فِي قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} قال: «لَا تَقُلْ؛ لِأَخِيك الْمُسْلِمِ يَا فَاسِقٌ يَا مُنَافِقٌ» حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ قال: «كَانَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ يُسْلِمُ فَيُقال لَهُ يَا يَهُودِيُّ يَا نَصْرَانِيُّ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ».
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قال: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ دَاوُد عَنْ عَامِرٍ قال: حَدَّثَنِي أَبُو جَبِيرَةَ بْنُ الضَّحَّاكِ قال: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَنِي سَلِمَةَ: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} قال: قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ مِنَّا رِجْلٌ إلَّا وَلَهُ اسْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقول: «يَا فُلَانٌ» فَيَقولونَ: مَهْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ يَغْضَبُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّقَبَ الْمَكْرُوهَ هُوَ مَا يَكْرَهُهُ صَاحِبُهُ وَيُفِيدُ ذَمًّا لِلْمَوْصُوفِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السِّبَابِ وَالشَّتِيمَةِ فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ وَالْأَوْصَافُ الْجَارِيَةُ غَيْرَ هَذَا الْمَجْرَى فَغَيْرُ مَكْرُوهَةٍ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّهْيُ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ أَفْعَالٍ.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خُثَيْمٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قال: كُنْت أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ الْعَشِيرَةِ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِهَا شَهْرًا وَصَالَحَ فِيهَا بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ وَوَادَعَهُمْ، فَقال لِي عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ لَك أَنْ تَأْتِيَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي عِيرٍ لَهُمْ نَنْظُرُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ فَأَتَيْنَاهُمْ فَنَظَرْنَا إلَيْهِمْ سَاعَةً ثُمَّ غَشِيَنَا النَّوْمُ، فَعَمَدْنَا إلَى صُورٍ مِنْ النَّخْلِ فِي دَقْعَاءَ مِنْ الْأَرْضِ فَنِمْنَا، فَمَا أَنْبَهَنَا إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْنَا، وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدَّقْعَاءَ، فَيَوْمَئِذٍ قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ: «يَا أَبَا تُرَابٍ» لِمَا عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ، فَأَخْبَرَنَاهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِنَا فَقال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْقَى رَجُلَيْنِ؟» قُلْنَا: مَنْ هُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: «أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ وَاَلَّذِي يَضْرِبُك يَا عَلِيُّ عَلَى هَذَا» وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى تُبَلَّ مِنْهُ هَذِهِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ.
وَقال سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ: «مَا كَانَ اسْمٌ أَحَبَّ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُدْعَى بِهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ» فَمِثْلُ هَذَا لَا يُكْرَهُ،؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ ذَمٌّ وَلَا يَكْرَهُهُ صَاحِبُهُ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ قال: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَنَسٍ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ»، وَقَدْ غَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَسْمَاءَ قَوْمٍ، فَسَمَّى الْعَاصِ عَبْدَ اللَّهِ وَسَمَّى شِهَابًا هِشَامًا وَسَمَّى حَرْبًا سِلْمًا، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ مِنْ الْأَلْقَابِ مَا ذَكَرْنَا دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اُنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا يَعْنِي الصِّغَرَ» قال أَبُو بَكْرٍ: فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غِيبَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَمَّ الْمَذْكُورِ وَلَا غِيبَتَهُ.
وقوله تعالى- {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} اقْتَضَتْ الْآيَةُ النَّهْيَ عَنْ بَعْضِ الظَّنِّ لَا عَنْ جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ قولهُ: {كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ} يَقْتَضِي الْبَعْضَ وَعَقَّبَهُ بِقوله: {إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} فَدَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ جَمْعَيْهِ وَقال فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} وَقال: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} فَالظَّنُّ عَلَى أَرْبَعَةٍ أَضْرُبٍ: مَحْظُورٍ وَمَأْمُورٍ بِهِ وَمَنْدُوبٍ إلَيْهِ وَمُبَاحٍ فَأَمَّا الظَّنُّ الْمَحْظُورُ فَهُوَ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تعالى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قال: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ التَّمَّارُ قالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قال: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ يَقول: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ يَحْيَى بْنِ مَنْصُورٍ الهروي قال حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ بْنُ نَصْرٍ قال: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِي عَنْ حِبَّانَ بْنِ أَبِي النَّصْرِ قال: سَمِعْت وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ يَقول: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقول اللَّهُ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ».
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قال: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ عَنْ شُتَيْرٍ يَعْنِي ابْنِ نَهَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ الْعِبَادَةِ» وَهُوَ مَرْفُوعٌ فِي حديث نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ غَيْرُ مَرْفُوعٍ فِي حديث مُوسَى بْنِ إسْمَاعِيلَ.
فَحُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ فَرْضٌ وَسُوءُ الظَّنِّ بِهِ مَحْظُورٌ مَنْهِيٌّ وَكَذَلِكَ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ مَحْظُورٌ مَزْجُورٌ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ الظَّنِّ الْمَحْظُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ صَفِيَّةَ قالتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا فَأَتَيْته أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْته وَقُمْت فَانْقَلَبْت فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» قالا:- سُبْحَانَ اللَّهِ- يَا رَسُولَ اللَّهِ قال: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مُجْرِي الدَّمِ فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا» أَوْ قال: «سُوءًا».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قال: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قال: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قال: حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحديث» فَهَذَا مِنْ الظَّنِّ الْمَحْظُورِ، وَهُوَ ظَنُّهُ بِالْمُسْلِمِ سُوءًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُهُ، وَكُلُّ ظَنٍّ فِيمَا لَهُ سَبِيلٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِمَّا تُعُبِّدَ بِعِلْمِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَعَبَّدًا تُعُبِّدَ بِعِلْمِهِ وَنُصِبَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَّبِعْ الدَّلِيلَ وَحَصَلَ عَلَى الظَّنِّ كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ؛ وَأَمَّا مَا لَمْ يُنْصَبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُوَصِّلُهُ إلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَقَدْ تُعُبِّدَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ فِيهِ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ، وَإِجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ.
وَذَلِكَ نَحْوُ مَا تَعَبَّدَنَا بِهِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْعُدُولِ وَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِمَقَادِيرِهَا تَوْقِيفٌ، فَهَذِهِ وَمَا كَانَ مِنْ نَظَائِرِهَا قَدْ تَعَبَّدَنَا فِيهَا بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِ غَالِبِ الظَّنِّ وَأَمَّا الظَّنُّ الْمُبَاحُ فَالشَّكَّاكُ فِي الصَّلَاةِ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّحَرِّي وَالْعَمَلِ عَلَى مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ، فَلَوْ غَلَبَ ظَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ كَانَ جَائِزًا، وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قال لِعَائِشَةَ: إنِّي كُنْت نَحَلْتُك جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا بِالْعَالِيَةِ، وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي حُزْتِيهِ وَلَا قَبَضْتِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَارِثِ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاك وَأُخْتَاك، قال: فَقُلْت: إنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَقال: «أُلْقِيَ فِي رُوعِي أَنَّ ذَا بَطْنِ خَارِجَةَ جَارِيَةٌ» فَاسْتَجَازَ هَذَا الظَّنَّ لِمَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قال: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قال: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا» فَهَذَا مِنْ الظَّنِّ الَّذِي يَعْرِضُ بِقَلْبِ الْإِنْسَانِ فِي أَخِيهِ مِمَّا يُوجِبُ الرِّيبَةَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَقِّقَهُ، وَأَمَّا الظَّنُّ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فَهُوَ حُسْنُ الظَّنِّ بِالْأَخِ الْمُسْلِمِ، هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مُثَابٌ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ سُوءُ الظَّنِّ مَحْظُورًا فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الظَّنِّ وَاجِبًا قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً، وَهُوَ أَنْ لَا يُظَنَّ بِهِ شَيْئًا فَإِذَا أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهِ فَقَدْ فَعَلَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ.
قوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد عَنْ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحديث وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا».